JSN Blank - шаблон joomla Продвижение

 

مياه النيل وعلاقات السودان وجنوب السودان .. بقلم: . . سلمان محمد أحمد سلمان

تناولت اتفاقية السلام الشامل وقّعتها الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان فى 9 يناير عام 2005م موارد المياه باقتضابٍ شديد، وشملتها فى بروتوكول توزيع السلطة، وليس فى بروتوكول توزيع الثروة (الذي تناول البترول والأراضى) كما كان متوقعاً. وأشارت الفقرة 33 من الجدول (أ) من بروتوكول توزيع السلطة، إلى الاختصاصات القومية فيما يتعلّق بموارد المياه، وتتضمّن "مياه النيل والمياه العابرة للحدود والنزاعات الناشئة عن إدارة موارد المياه، وهيئة مياه النيل وإدارة المياه المشتركة فيما بين الولايات الشمالية وأية نزاعات تنشب بين الولايات الشمالية والجنوبية." وتمّ تضمين هذا النص في الفقرة 33 من الجدول (أ) من االدستور الانتقالي لجمهورية السودان والذي تمّ إصداره في 6 يوليوعام 2005م. عليه فقد اتفق الطرفان أن كل ما يتعلق بمياه النيل والهيئة الفنية الدائمة المشتركة لمياه النيل، إضافةً للمياه المشتركة بين الشمال والجنوب هو من صلاحيات الحكومة المركزية. وأشار البروتوكول إلى صلاحيات حكومة جنوب السودان والموقوفة فقط على تقديم خدمات المياه والصرف الصحى فى جنوب السودان.
يُثار السؤال عن الأسباب التى حدت بالحركة الشعبية إلى إحالة كل مسائل مياه النيل إلى صلاحيات الحكومة المركزية دون تدخّلٍ أو حتى مشورة الحركة الشعبية رغم أن النيل الأبيض ومعظم روافده تجري وتلتقي في جنوب السودان. وفى تصورى أن الحركة قصدت من هذا التنازل عدم إثارة حفيظة دول النيل الأخرى، وخاصةً مصر، وضمان أن يُبحِر الاتفاق على تقرير مصير جنوب السودان دون أيّة تحدياتٍ أو تساؤلاتٍ خارجية قد يُثيرها تدخل الحركة الشعبية فى مياه النيل. وقد تضمّن بحث الدكتور جون قرنق لدرجة الدكتوراه عن قناة جونقلي وصفاً مفصلاً لمياه النيل ونزاعات دول الحوض، مما يعني أنه كان مُلِمّاً إلماماً كاملاً بالمشاكل التى تسيطر على علاقات دول الحوض، وقرّر عدم زجّ حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان في خِضم مياه النيل المضطربة.


كما يجب إضافة أن جنوب السودان لم تكن لديه فى الوقت الذى تمت فيه المفاوضات حول اتفاقية السلام الشامل أيّة احتياجاتٍ عاجلة لمياه النيل بسبب عدم وجود مشاريع ريٍ أو كهرباء تعتمد على مياه النيل فى ذلك الوقت. فالمشاريع القليلة القائمة في جنوب السودان (مثل مشروع أنزارا الزراعي ومشروع واو لتعليب الفاكهة ومشروعي ملوط ومنقلا للسكر) كلها تحتاج إلى إعادة تأهيلٍ كبير قبل أن تبدأ فى العمل . كما أن كميات الأمطار التى تهطل خلال جزءٍ كبير من العام فى أجزاء واسعة من جنوب السودان تكفى إلى حدٍ كبير لتغطية احتياجات السكان الحالية فى الزراعة والرعى. عليه فلم يكن هناك من الأسباب العاجلة ما يدفع الحركة الشعبية للمطالبة بنصيبٍ في مياه النيل أو حتى التمثيل في الهيئة الفنية المشتركة بين مصر والسودان.


2
ورغم وضوح وإلزامية النص فى الاتفاقية والدستور اللذين يحيلان كل الصلاحيات حول مياه النيل إلى الحكومة المركزية، إلّا أن قيادات الحركة الشعبية تسلّمت زمام المبادرة حول قناة جونقلي منذ بداية الفترة الانتقالية، وأكدت مراراً وتكرارًا خلال أعوام الفترة الانتقالية الستة أن مسألة إعادة العمل وإكمال قناة جونقلي ليست من أسبقياتها. وقد وردت تلك التصريحات على لسان السيد سلفا كير نفسه، وفي عدّة لقاءات صحفيّة، خاصةً بعد عودته من إحدى زياراته للقاهرة. ووردت تصريحاتٌ أخرى من جوبا مفادها أن موضوع القناة يحتاج إلى دراسة جدوى جديدة تشمل المسائل الاقتصادية والبيئية والاجتماعية. حدث كل هذا رغم أن الاتفاقية والدستور ينصان على أن كل المسائل المتعلّقة بنهر النيل من اختصاصات الحكومة المركزية فى الخرطوم، ولا دور لحكومة الجنوب فيها.
ويُلاحظ أن تصريحات الحركة الشعبية المتعلقة بقناة جونقلي جاءت رداً على الطلبات أو التعليقات المصرية، وليس رداً على طلباتٍ من الخرطوم، إذ أن الخرطوم لم تثِرْ مسألة قناة جونقلي خلال مفاوضات السلام أو أثناء الفترة الانتقالية. وكان واضحاً أن الحماس لقناة جونقلي الذى ساد فى الخرطوم فى سبعينيات القرن الماضى لم يعد له وجود مرةً ثانية فى العقد الأول من هذا القرن. والسبب يعود فى رأيي إلى عدم إحتياج السودان لمياه إضافية لأنه لم يستطع بعد من استعمال أكثر من 12 مليار متر مكعب من حصته البالغة 18,5 مليار متر مكعب بموجب اتفاقية مياه النيل لعام 1959م. ويعود أيضاً للتجربة المريرة التي مرّ بها السودان في موضوع قناة جونقلي عندما نجحت الحركة الشعبية في مهاجمة موقع القناة وإيقاف العمل في بنائها في فبراير عام 1984م..
3
تدور أسئلةٌ كثيرة حول مستقبل قناة جونقلي وعن مدى إلزامية اتفاقيتى مياه النيل لعام 1929م وعام 1959م على دولة جنوب السودان. وبغض النظر عن الجدل القانوني عن إلزامية هاتين الاتفاقيتين فقد أثبتت تجربة قناة جونقلي أن قرار بناء أيّة قناة لزيادة مياه النيل من أيةٍ من مستنقعات جنوب السودان قد انتقل عام 1984م (عندما أوقفت الحركة الشعبية لتحرير السودان العمل فى القناة) من الخرطوم والقاهرة إلى جوبا. تأكّد هذا الوضع بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل لعام 2005م، على الرغم من أن الاتفاقية وضعت الصلاحيات المتعلقة بمياه النيل بيد الحكومة المركزية. وتمّ تأكيد هذا الوضع عملياُ وقانونياُ عند ميلاد دولة جمهورية جنوب السودان فى 9 يوليو عام 2011م. إن المسألة إذن ليست عن إلزامية اتفاقية عام 1959م بقدر ماهى عن العوامل والظروف الموضوعية والعملية التى تحيط بمسألة تخطيط وتنفيذ قناة جونقلي والقنوات الثلاث الأخرى المقترحة في مستنقعات جنوب السودان. ولا بدّ في هذا الصدد من الوقوف عند مجموعةٍ من العوامل:
أولاً: بالطبع لن تفكر حكومة جمهورية جنوب السودان فى إكمال قناة جونقلي أوبدء أيّة قناةٍ أخرى إن لم تكن لها مصلحة فى أىٍّ من هذه المشاريع. عليه فإن السؤال الذى يجب الرد عليه هو: ما هى مصلحة حكومة جمهورية جنوب السودان فى إكمال قناة جونقلي أوبدء بناء أية قناةٍ أخرى؟ وما هى الحوافز التى يمكن أن تُقدّم لحكومة جمهورية جنوب السودان كى توافق على إكمال قناة جونقلي، أو بناء أيّةٍ من القنوات الثلاث الأخرى؟
ثانياً: إن الرأي النهائى حول القناة لن يكون بيد حكومة جمهورية جنوب السودان وحدها. فالمجموعات المحلية في جنوب السودان التى ستتأثر بهذه المشاريع، ومنظمات المجتمع المدنى المعنيّة بالبيئة، سيكون لها رأىٌ وصوتٌ عالٍ هذه المرة، على عكس عام 1978م عندما بدأ العمل فى قناة جونقلي. فقد تضررّت تلك المجموعات كثيراً من القناة ولم يكن هناك أدنى تفكيرٍ في تعويضها كما حدث ويحدث في مشاريع المياه الأخرى. كما أن حكومة الخرطوم لم تُنجِز أيٍ من المشاريع التنموية التي وعدت بها المنطقة. عليه فإن حكومة جمهورية جنوب السودان لن تستطيع اتخاذ أى قرارٍ بشأن القناة، أو أيةٍ من القنوات الأخرى المقترحة، بدون الرجوع إلى هذه المجموعات المحلية وإقناعها والاتفاق معها. ولا بد من الإشارة هنا أنه اعترض عددٌ كبيرٌ من السياسيين والفنيين على قناة جونقلي، وتظاهر عددٌ كبير من الطلاب والمواطنين ضدها وقُتِل عددٌ من المتظاهرين عام 1976م.
ثالثاً: إن مستنقعات بحر الجبل وبحر الزراف المعروفة بـ "السُّد" قد تم إعلانها فى يونيو عام 2006م مناطق رطبة ذات أهمية عالمية بموجب الاتفاقية الدولية للأراضى الرطبة ذات الأهمية الدولية المعروفة بـ "اتفاقية رامسار"، والتى يشرف عليها الإتحاد الدولى لحفظ الطبيعة. هذا بدوره سيقوّى أيادى منظمات المجتمع المدنى المحلية والإقليمية والعالمية المعنيّة بحماية البيئة عموماً، ومستنقعات جمهورية جنوب السودان خاصةً.
رابعاً: إن الوضع الأمنى فى ولاية جونقلي ظل مضطرباً خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة. وقد وقعت عدة حوادث قتالٍ قبلى وتمردٍ فى المنطقة أبرزها التمرد الذى يقوده اللواء جورج أثور، وآخر بقيادة السيد ديفيد ياوياو. وتجعل الظروف الطبيعية والمستنقعات من منطقة جونقلي مكاناً مناسباً للتمرد، مثلما حدث عام 1983م عندما تمركزت الحركة الشعبية لتحرير السودان لبعض الوقت فى تلك المنطقة.
خامساً: لابد من الإشارة إلى أن تجربة الشركة الفرنسية فى العمل فى قناة جونقلي ستكون درساً مهمّاً لكل شركةٍ تفكر مستقبلاً فى الإستثمار فى قنوات جنوب السودان. فالحفار قد تآكل وصدئ خلال الخمسة والعشرين عاماً الماضية ولا أحد يؤمل عليه. والحالة الأمنية غير مستقرة. والشركة مازالت فى انتظار أن تدفع لها حكومة السودان، بعد أكثر من خمسةٍ وعشرين عاماً، التعويض الذي قررته هيئة التحكيم التابعة للغرفة التجارية الدولية عام 1985م.
سادساً: تجاوزت تكلفة الجزء الذي اكتمل من قناة جونقلي المائتي مليون دولار، وهذا الرقم لم يشمل المشاريع التنموية التي وعدت بها الحكومةُ المنطقةَ. وإذا أخذنا في الإعتبار الزيادة الكبيرة التي لا بدّ أن تكون قد طرأت على التكلفة منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، والتعويضات للمجموعات المتضرّرة، فإن التكلفة الجديدة المتوقعة للقناة ستكون باهظةً.
سابعاً: كما يجب إضافة أن الدول النيلية الأخرى قد أوضحت بجلاء فى العامين الماضيين أنها تريد أن تكون طرفاً فاعلاً فى كل ما يتعلق بمياه النيل وأن تنال حقوقها فى مياه الحوض. هذه الدول قد لا تلزم الصمت تجاه أيّة فكرةٍ لإكمال قناة جونقلي أوبناء أيّة قناةٍ أخرى في مناطق مستنقعات جمهورية جنوب السودان قبل معالجة مسألة نصيبها من مياه النيل. فمياه مستنقعات السُّد تأتى من البحيرات الإستوائية، كما أن مياه مستنقعات مشار/السوباط تأتى من الهضبة الإثيوبية. وهذا بدوره يثير التساؤل الكبير حول من يملك مياه نهر النيل؟
عليه فإننى أعتقد أن قناة جونقلي قد أصبحت مشروعاً معقّداً وشائكاً، ولن يمكن تحقيقه، على الأقل على المديين القريب والمتوسط.
4
في 30 ديسمبر عام 2009م أجاز المجلس الوطني في الخرطوم قانون استفتاء جنوب السودان. وقد نصّت المادة 67 من القانون على الآتي:
"دون المساس بأحكام البندين (1) و(2) أعلاه، يدخل طرفا اتفاقية السلام الشامل في مفاوضات بهدف الاتفاق على المسائل الموضوعية لما بعد الاستفتاء بشهادة المنظمات والدول الموقعة على اتفاقية السلام الشامل والمسائل هي: 1. الجنسية 2. العملة 3.الخدمة العامة 4. وضع الوحدات المشتركة المدمجة والأمن الوطني والمخابرات 5. الاتفاقيات والمعاهدات الدوليّة 6. الأصول والديون 7. حقول النفط وانتاجه وترحيله وتصديره 8. العقود والبيئة في حقول النفط 9. المياه 10. الملكية 11. أية مسائل أخرى يتفق عليها الطرفان."
وهكذا بعد خمسة أعوام من توقيع اتفاقية السلام الشامل برزت قضية مياه النيل مرةً أخرى وتمّ تضمينها كإحدى المسائل الأساسية في ترتيبات ما بعدالاستفتاء. ولكن رغم مرور عشرة أشهرٍ على قيام الاستفتاء وقرابة الخمسة أشهر على انفصال جنوب السودان إلاّ أن قضيّة تقاسم مياه النيل لم يتم الاتفاق عليها بين الطرفين بعد، مثل عددٍ من المسائل الأخرى الواردة في قانون استفتاء جنوب السودان.
5
مع بروز جنوب السودان كدولةٍ مستقلة في التاسع من يوليو عام 2011م فقد ارتفع عدد دول حوض النيل إلى إحدى عشرة دولة هي كينيا وتنزانيا ويوغندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وبوروندي ورواندا وإثيوبيا وإريتريا والسودان ومصر، بالإضافة إلى جمهورية جنوب السودان.
يقع حوالي 20% من حوض النيل في جمهورية جنوب السودان، وهي الدولة الثانية مساحةً في الحوض بعد جمهورية السودان التي يقع فيها حوالي 45% من الحوض. كما أن حوالي 90% من جنوب السودان يقع داخل حوض النيل. وتقع المدن الرئيسية الثلاث في جنوب السودان – جوبا وملكال وواو – على النيل الأبيض أو أحد روافده. وتلتقي معظم روافد النيل الأبيض فى دولة جنوب السودان، وهناك أيضاً يلتقي النيل الأبيض الذي تأتي معظم مياهه من البحيرات الاستوائية بنهر السوباط الذي يأتي من الهضبة الإثيوبية. تجدر الإشارة إلى أن قدراً كبيراً من المياه يُقدّر بحوالي 40 إلى 50 مليار متر مكعب يتبخر ويتسرّب في مستنقعات جنوب السودان الثلاث (السُّد وبحر الغزال ومشار/السوباط). وتشير الدراسات إلى إمكانية إضافة حوالي 20 مليار متر مكعب إلى النيل الأبيض من هذه المستنقعات من خلال الأربع قنواتٍ المقترحة والتي تشمل قناة جونقلي.
عليه فإنه يمكن تصنيف دولة جنوب السودان كدولةٍ نيليةٍ ذات اهتماماتٍ عالية ودورٍ كبير في نهر النيل، أُسوةً بمصر والسودان وإثيوبيا. ويُتوقع أن يلعب جنوب السودان (إنْ قُدِّر له الإستقرار السياسي والأمني) دوراُ كبيراُ في مجريات الأمور في نهر النيل بما في ذلك مسألة اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل والتي ما زالت مثار جدلٍ بين مصر والسودان من جانبٍ، ودول حوض النيل الأخرى من جانبٍ آخر. ويتوقع المراقبون في هذا المجال أن تقوم جمهورية جنوب السودان بالإنضمام للاتفاقية وذلك بسبب العلاقات العرقية والجغرافيّة والتاريخية والثقافية والاقتصادية الوطيدة التي تربطها بدول البحيرات الإستوائية، والوقوف مع هذه الدول في نزاعاتها النيلية مع مصر والسودان.


6
إحتياجات جمهورية جنوب السودان من مياه النيل محدودةٌ جداً في الوقت الحاضر. فكما ذكرنا من قبل فإن المشاريع القليلة القائمة في جنوب السودان (مثل مشروع أنزارا الزراعي ومشروع واو لتعليب الفاكهة ومشروعي ملوط ومنقلا للسكر) كلها تحتاج إلى إعادة تأهيلٍ كبير قبل أن تبدأ فى العمل . كما أن كميات الأمطار التى تهطل خلال جزءٍ كبير من العام فى أجزاء واسعة من جنوب السودان تكفى إلى حدٍ كبير لتغطية احتياجات السكان الحالية فى الزراعة والرعى. وقد تكون هذه من ضمن العوامل التي بسببها لم تُحظ قضية مياه النيل بأهمية ٍ وأولويةٍ خلال مفاوضات السلام.
غير أن دولة جنوب السودان تتحدث عن الحاجة العاجلة لإعادة تأهيل المشاريع القائمة وللبدء في مشاريع مياهٍ جديدةٍ تشمل بناء مجموعة من السدود لتوليد الطاقة الكهربائية ومن أجل مياه الري والشرب. وقد بدأ فعلاً التخطيط لبناء سد "بيدين" على بحر الجبل جنوبي مدينة جوبا، وسدٍّ آخر قرب مدينة واو. عليه فإن دولة جنوب السودان تطالب بنصيبها من مياه النيل ليتسنى لها البدء في هذه المشاريع، ولتأكيد أحقيتها لقدرٍ من مياه النيل كدولةٍ مشاطئة، وبموجب قانون استفتاء جنوب السودان لعام 2009م، وبمقتضى القانون الدولي للمياه.
7
يُثار السؤال بين الأوساط السياسية والأكاديمية: من أين ستأتي المياه التي ستُخصّص لدولة جنوب السودان؟ يتم تناول الإجابة على هذا السؤال من منحيين هما:
أولاُ: تُشير الفقرة الثانية من الجزء الخامس من اتفاقية مياه النيل لعام 1959م إلى مطالب البلدان النيلية الأخرى بنصيبٍ في مياه النيل وإلى اتفاق مصر والسودان على أن يبحثا سوياً مطالب هذه البلاد ويتفقا على رأىٍ موحّد بشانها. وإذا أسفر البحث عن إمكان قبول أية كمية من إيراد النهر تُخصّص لبلدٍ منها فإن هذا القدر محسوباً عند أسوان يُخصم مناصفةً بينهما (وليس بنسبة حصة كلٍ منهما). وتُلزم الاتفاقية الهيئة الفنية الدائمة المشتركة التي أنشأتها الاتفاقية بمراقبة عدم تجاوز هذه البلاد للكمية التي اتفقت عليها وقررتها مصر والسودان. يجادل بعض السياسيين والفنيين السودانيين أن هذا النص من الاتفاقية يعالج مطالب جمهورية جنوب السودان بنصيبٍ لها من مياه النيل، وهذا يعني أن نصيب جنوب السودان (إن وافقت مصر والسودان على ذلك) سيُخصم مناصفةً بين مصر والسودان. بالطبع ترفض حكومة جنوب السودان هذا الرأي، وتوافقها في ذلك مصر، كما سنناقش في المنحى الثاني.
ثانياً: ترى حكومة جنوب السودان، كما أكّد السيد بول ميوم وزير الري والموارد المائية خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده مع نظيره المصري السيد هشام قنديل في جوبا يوم 24 سبتمبر 2011م أن مطالب جمهورية جنوب السودان من مياه النيل ستكون من حِصّة السودان، وليس خصماً على نصيب مصر. وهذا هو الرأي الذي تتبناه مصر. وتعرف حكومة الجنوب أن هذا الطريق هو الأقصر والأسهل لحصولها على نصيبٍ من مياه النيل لأنه سيجنّبها التفاوض والتجادل مع مصر.
من المؤكد أن تصريح السيد وزير الري السوداني في 10 أغسطس عام 2011م أن السودان يستخدم 12 مليار متر مكعّب فقط من جملة نصيبه البالغ 18,5 مليار متر مكعب بموجب اتفاقية مياه النيل لعام 1959م سيصبُّ في مصلحة مطالب جنوب السودان لأن الفائض كبير.
كم ستكون مطالب حكومة جنوب السودان، وعلى ماذا ستُبْنى، وكم سيوافق السودان على إعطائها؟ ستظل هذه الأسئلة المسائلَ الأساسية في مفاوضات مياه النيل بينهما، وسيأتي كل طرفٍ بأرقامه ومشاريعه وخططه. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن النيل الأبيض وحده هو الذي يجري في جمهورية جنوب السودان، وأنه لا النيل الأزرق ولا أيٌ من روافده يمرُّ بدولة جنوب السودان.
إنّ اتفاقية الأمم المتحدة بشأن "قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية" التي أجازتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 21 مايو عام 1997م تتضمن مجموعةً من العوامل لتحديد نصيب كل دولةٍ من دول المجرى المشترك، تشمل العوامل الجغرافية والهيدروغرافية والهيدرولوجية والمناخية؛ الحاجات الاجتماعية والاقتصادية لدول المجرى؛ السكان الذين يعتمدون على المجرى المائي في كل دولة؛ آثار استخدام المجرى في إحدى الدول على غيرها من دول المجرى؛ الاستخدامات القائمة والمحتملة للمجرى المائي؛ ومدى توافر بدائل ذات قيمة مقارنة لاستخدامٍ معينٍ مزمعٍ أوقائم. وقد صادقت على هذه الاتفاقية حتى الآن 24 دولة ولكنها تحتاج إلى تصديق 35 دولة لتدخل حيز التنفيذ. تجدر الإشارة هنا إلى أن السودان كان قد صوّت لصالح الاتفاقية عام 1997م ولكنه لم يوقّع عليها وليس طرفاً فيها. غير أنه هناك اتفاقٌ بين الخبراء في هذا المجال أن نصوص الاتفاقية تعكس مبادئ القانون الدولي العرفي للمياه.
إن إجتماع وزراء المياه لدول حوض النيل الاستثنائي الذي سيُعقد في 17 ديسمبر 2011م لمناقشة تداعيات اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل سيفتح بالضرورة مرةً ثانية مسألة الانتفاع المنصف والمعقول لمياه النيل بين دول الحوض جميعها، وقد تنتج عن هذا الاجتماع تداعياتٌ مباشرةً أوغير مباشرة على مفاوضات السودان وجنوب السودان حول مطالب دولة جنوب السودان بنصيبٍ في مياه النيل.
عليه فإن قضايا تقاسم مياه النيل قد لاتكون مسألةً عاجلةً ومهمةً بين السودان وجنوب السودان على المدى القصير، ولكن حتماً ستكون من أهم القضايا بين الدولتين خلال أعوام بسبب تزايد احتياجات الدولتين لاستخدامات مياه النيل، ولأن معدلات انتاج الدولتين من المواد البترولية ستأخذ في التناقص كما يشير عددٌ من الدراسات إلى ذلك.

Go to top