JSN Blank - шаблон joomla Продвижение

 

الوساطة السودانية بين مصر واثيوبيا حول مياه النيل (2) .. بقلم: د. سلمان محمد أحمد سلمان

أوردنا في المقال السابق تصريح السيد عبد الرحمن سرالختم سفير السودان باثيوبيا لجريدة الصحافة بتاريخ الثلاثاء 10 يناير 2012 والذي كشف فيه عن وساطة ينوي السودان أن يقودها بين مصر واثيوبيا بشأن ملف مياه النيل وبشأن الخلافات التي لا زالت ماثلةً بين دول حوض النيل حول بعض بنود اتفاقيتي 1929 و1959. وذكر السيد السفير أن الوساطة التي سيقودها السودان بين القاهرة وأديس أبابا تهدف لجعل ملف حوض النيل موضوع اتفاق وليس تفرقة بين الدول.
أوضحنا في ذلك المقال نقاط الخلاف الأساسية حول اتفاقيتي 1929 و1959 والتي ينوي السودان التوسط من أجل حلّها، كما ناقشنا كيف صارت اتفاقية مياه النيل لعام 1959 بين مصر والسودان نقطة تحولٍ حاسمٍ في تاريخ نهر النيل وتاريخ العلاقات بين البلدين أيضاً، وكيف خلقت تلك الاتفاقية حِلفاً قويّاً بين الدولتين، وشرحنا كيف تمّ تحت مظلة ذلك الحِلف تقاسم كل مياه النيل المقاسة عند أسوان بـ 84 مليار متر مكعب بينهما (55,5 مليار متر مكعب لمصر، و18,5 مليار للسودان، و10 مليار فاقد التبخر في بحيرة السد العالي). ناقشنا أيضاً صلاحيات الهيئة الفنية الدائمة المشتركة بين مصر والسودان، والتي تشمل مراقبة تنفيذ الاتفاقية ورصد مناسيب النيل وتصرفاته في كامل أحباسه العليا دون علم أو مشورة دول تلك الأحباس، وشرحنا الأسس التي ضمّنتها الدولتان في الاتفاقية للتعامل مع أي مطالبٍ من البلدان النيلية الأخرى بنصيبٍ في مياه النيل.
أثرنا في ذالك المقال عدّة أسئلة عن هذه الوساطة منها: كيف يستطيع السودان، وهو طرفٌ رئيسيٌ في هذه الخلافات وحليفٌ أساسيٌ لمصر في نزاعاتها مع دول حوض النيل الأخرى، أن يلعب فعلاً دور الوسيط بين مصر واثيوبيا، وما هو هذا الدور الذي يمكن أن يلعبه السودان، وماهي النتائج التي يتوقعها؟

2
قبل محاولة الإجابة على هذه الاسئلة نرى أنه لابُدّ من الغوص قليلاً في العلاقات المصرية السودانية حول مياه النيل وتوضيح كيف استطاعت مصر والسودان تفعيل نصوص اتفاقية عام 1959، والتي وضعا بموجبها أيديهما على كل مياه نهر النيل، إلى واقعٍ عملي.
لقد برز هذا التفعيل إلى واقعٍ عملي من خلال البنية المؤسسية المشتركة ومن خلال تشييد السدود والقنوات المُضمّنة في الاتفاقية. فكما ذكرنا في المقال السابق فقد تضمّنت اتفاقية مياه النيل الخطوط العريضة للمهام الأساسية للهيئة الفنية الدائمة المشتركة بين مصر والسودان في تنفيذ الاتفاقية. ولتفصيل تلك المهام فقد وقّعت الدولتان في 17 يناير عام 1960 على البروتوكول الخاص بإنشاء الهيئة الفنيّة الدائمة المشتركة والتي تكوّنت وقتها من أربعة مهندسين سودانيين هم السادة محمود محمد جادين، الرشيد سيد أحمد، صغيرون الزين، ويحيى عبد المجيد؛ وأربعةٍ مهندسين مصريين هم السادة محمد خليل ابراهيم، عبد العظيم اسماعيل، محمد أمين، وتوفيق محمد خليفة. ويُعاون فريق المهندسين المشترك سكرتارية مقرها الخرطوم. كما اتفق الطرفان على أن تكون رئاسة الهيئة الفنية بالتناوب سنوياً. ولتأكيد أهمية بروتوكول إنشاء الهيئة فقد وقّع عليه (مثل اتفاقية مياه النيل لعام 1959) السيدان زكريا محي الدين ومحمد طلعت فريد نفسيهما. وتمّ الاتفاق في 31 يوليو عام 1960 على اللائحة الداخلية للهيئة الفنيّة الدائمة المشتركة لمياه النيل، وأٌجِيز البروتوكول واللائحة بواسطة مجلس الوزراء لكلٍ من الدولتين.
ولتأكيد أن الحلف الجديد قد وُلِد بأسنانه وأنه سيتحدث بصوتٍ واحد تجاه دول حوض النيل الأخرى تضمّنت الاتفاقية مبدأ الرأي الموحّد بين الدولتين. فقد نصّت المادة الخامسة من الاتفاقية على أنه "عندما تدعو الحاجة إلى إجراء أي بحثٍ في شئون مياه النيل مع أى بلدٍ من البلاد الواقعة على النيل خارج حدود الجمهوريتين فإن حكومتي جمهورية السودان والجمهورية العربية المتحدة تتفقان على رأيٍ موحّد بشأنه بعد دراسته بمعرفة الهيئة الفنية المشتركة. ويكون هذا الرأي هو الذي تجري الهيئة الاتصال بشأنه مع البلاد المشار إليها." وبقدر ما أوضحت هذه المادة قوة الحلف الجديد، إلاّ أنها أيضاً فرضت على كلٍ من الدولتين ضرورة العمل على تطابق رؤاها مع الأخرى في شئون مياه النيل عندما تدعوالحاجة إلى التباحث في أيٍ من هذه الشئون مع دولةٍ أو دولٍ نيليةٍ أخرى. وعليه فلا تستطيع أيٌ من الدولتين، بمقتضى اتفاقية مياه النيل، اتخاذ موقفٍ بدون موافقة الدولة الأخرى.
3
بعد الانتهاء من البنية المؤسسية للهيئة الفنية بدأت مصر والسودان برنامجاً مكثّفاً لبناء السدود التي أجازاها وشملتها اتفاقية مياه النيل لعام 1959. وقد تضمّنت الاتفاقية موافقة مصر والسودان على إنشاء مصر للسدِّ العالي عند أسوان وذلك لضبط مياه النيل والتحكم في منع انسياب مياهه إلى البحر. وتُشير الاتفاقية إلى السد العالي "كأول حلقة من سلسلة مشروعات التخزين المستمر على النيل." وتشير الاتفاقية أيضاً إلى موافقة الدولتين على إنشاء السودان لخزان الروصيرص وأى أعمالٍ أخرى يراها السودان لازمةً لاستغلال نصيبه من مياه النيل. وكانت مصر قد رهنت موافقتها على بناء خزان الروصيرص على موافقة السودان على بناء السد العالي، وهو ما وافق عليه السودان بعد سنواتٍ من المفاوضات. وقد تضمّنت تلك الأعمال الأخرى خزان خشم القربة، رغم أن اتفاقية مياه النيل لعام 1959 لم تُشِر صراحةً إليه. وبالطبع فقد وافقت مصر على خزان خشم القربة لأن الغرض من الخزان هو ريّ مشروع حلفا الجديدة الذي تمّ التخطيط له لتوطين أهالي مدينة وادي حلفا و27 من القرى المجاورة والبالغ عددهم حوالي 50,000 نسمة والذين كان السد العالي سيُغرِق أراضيهم.
4
بدأت مصر العمل في السد العالي في يناير 1960، بعد حوالي شهرين فقط من توقيع اتفاقية مياه النيل، واكتمل العمل في يوليو 1970. وتبلغ سعة البحيرة التخزينية للسد حوالي 160 مليار متر مكعب من المياه (أى ما يساوي قرابة ضعف حمولة النيل السنوية المقدّرة عند أسوان بـ 84 مليار متر مكعب). ويبلغ طول البحيرة وراء السد (والتى سُمّيت بحيرة ناصر) حوالي 550 كيلومتر (150 كيلومتر منها داخل الحدود السودانية وتُعرف بـ بحيرة النوبة)، وعرضها حوالي 35 كيلومتر، مع مساحة سطحية تُقدّر بحوالي 5,250 كيلومتر مربع. وقد كان السد العالي عند اكتماله عام 1970 أكبر سدٍّ في العالم، وكان وما يزال أكبر سدٍّ على نهر النيل.
5
من الجانب الآخر بدأ السودان العمل في خزان الروصيرص عام 1960. يبلغ ارتفاع السد 60 متراً ويقع على بعد 106 كيلومتر من الحدود الاثيوبية. وتحجز بحيرة السد، والتى تقع كلها داخل الحدود السودانية، حوالي ثلاثة ونصف مليار متر مكعب من المياه. وتُستغلُّ هذه المياه، مع مياه خزان سنار، لري مشروع الجزيرة وامتداد المناقل بمساحةٍ بلغت عند افتتاح الخزان عام 1966 مليوني فدان. وتُستعمل مياه الخزان أيضاً لتوليد حوالى 280 ميقاواط من الطاقة الكهربائية. أدّى تراكم الطمي إلى انخفاضٍ حاد في كمية المياه المخزّنة وصل حسب بعض التقارير إلى 50%، ونتج عنه نقصانٌ كبير في المياه المتاحة للري ولتوليد الطاقة الكهربائية. ومع تراكم الطمي مع مرور الزمن، نتج تنافسٌ حاد حول استخدام مياه الخزان بين استعمالات الري وتوليد الطاقة الكهربائية. هذا وقد تعاقدت الحكومة السودانية في أبريل عام 2008 مع شركتين من جمهورية الصين الشعبية لتعلية الخزان بحوالي عشرة أمتار. ويُتوقع أن تُمكّن هذه التعلية عند اكتمالها من زيادة المياه المُخزّنة إلى الضعف.
بدأ السودان أيضاً العمل في خزان خشم القربة في نوفمبر عام 1960. وكان السودان في سباقٍ مع الزمن لإكمال الخزان حتى يتسنّى ترحيل أهالي حلفا قبل يوليو 1963 حسب ما تنصُّ عليه اتفاقية مياه النيل. اكتمل العمل في الخزان في منتصف عام 1964، وهو سدٌ صغير كانت طاقته التخزينية حوالى مليار متر مكعّب من المياه عام 1964. ولكن هذه الطاقة تناقصت بمرور الزمن إلى النصف بسبب تراكم الطمي الذى يحمله نهر عطبرة سنوياً من الهضبة الاثيوبية. وعليه فقد قلّت المساحة التي كانت تُروي من الخزان في مشروع حلفا الجديدة الزراعي، وكذلك قلّت الكهرباء التى يُولّدها السد.
6
لم تكتفِ مصر والسودان بموجب اتفاقية مياه النيل لعام 1959 بتقسيم مياه النيل بينهما وبناء السدود لتخزين واستخدام هذه المياه، بل امتد تخطيطهما لتجميع مياه مستنقعات جنوب السودان وإضافتها للنيل الأبيض واستخدامها مناصفةً في شمال السودان ومصر
كان أول تلك المشاريع هو قناة جونقلي. وقد بدأ التخطيط لبناء قناة جونقلي بعد توقيع حكومة السودان لاتفاقية أديس أبابا مع حركة تحرير جنوب السودان عام 1972. على إثر ذلك وقّعت مصر والسودان اتفاقية بناء قناة جونقلي في 6 يوليو عام 1974م، واتفق السودان ومصر على أن تقوم الهيئة الفنية الدائمة المشتركة بالإشراف العام على بناء القناة. كما تمّ الاتفاق بين البلدين على تقاسم التكلفة والعائد المائي مناصفةً كما تقضي بذلك اتفاقية مياه النيل. وفي 28 يوليو عام 1976م تمّ التعاقد بين حكومة السودان والشركة الفرنسية العالمية للبناء (والمعروفة إختصاراً بـ سي سي آى) لحفر قناة جونقلي.
لكن مشروع قناة جونقلي قُوبِل بكثيرٍ من المعارضة فى جنوب السودان. وقد وصفه معارضوه بأنه مشروعٌ مضّرٌ بالسكان المحليين، وسيفصل المنطقة الشرقية للقناة عن المنطقة الغربية ويُوقِف حركة القبائل فى المنطقة بحثاً عن الكلأ والماء، وسيعرّض الحياة البرية لنفس المشاكل. كما تحدّث المعارضون عن التأثيرات البيئية السلبية للمنطقة ووصفوا المشروع بأنه لمصلحة مصر والسودان ولا فائدة فيه لجنوب السودان. تصدّت حكومة الجنوب بعنفٍ للمظاهرات التي خرجت بها مجموعاتٌ كبيرة من الطلاب ضد مشروع القناة، وقد قُتِل في تلك المظاهرات سبعة أشخاص، ولكن الأحوال هدأت بعد وعود الخرطوم بناء عددٍ من المشاريع التنموية في منطقة قناة جونقلي. وكان العمل في القناة قد أوشك على الاكتمال عندما هاجمتها الحركة الشعبية لتحرير السودان في فبراير عام 1984 وأوقفت العمل نهائياً في المشروع ذاك الشهر. وقد كان من المُقدّر أن تُضيف قناة جونقلي حوالي خمسة مليار متر مكعب من المياه للنيل الأبيض لمصلحة مصر والسودان، ولكنْ ذلك الحلم تبخّر عام 1984.
7
يُوضّح هذا العرض أنه قد نتجتْ عن اتفاقية مياه النيل لعام 1959 بِنيةٌ مؤسسيةٌ ثنائية بين مصر والسودان تمثّلت في الهيئة الفنية الدائمة المشتركة. كما نتجتْ عنها ثلاثة سدودٍ (السد العالي والروصيرص وخشم القربة) كان أحدها حتى وقتٍ قريب أكبر سدٍّ في العالم. هذا ويجب إضافة أنه وقت توقيع الاتفاقية كانت هناك ثلاثة سدودٍ أخرى قائمة في مصر والسودان هي أسوان وسنار وجبل أولياء، بالإضافة إلى القناطر الخيرية (إسنا، نجع حمادي، اسيوط، الدلتا). نتج عن هذه البنية التحتية الكبيرة والمتعدّدة استخدام مصر والسودان لكل مياه النيل المقاسة عند أسوان، والتخطيط والبدء في بناء قناة جونقلي لإضافة مياهٍ جديدةٍ لنهر النيل لمصلحة البلدين.
عندما نالت دول حوض النيل الاستوائية (كينيا ويوغندا وتنزانيا) استقلالها في ستينيات القرن الماضي وقررت، ومعها اثيوبيا، البدء في استخدام مياه النيل لمشاريع مياه الشرب والري وتوليد الطاقة الكهربائية عارضتْ مصر والسودان هذه المشاريع بشدّة بحجّة أنها ستسبّب ضرراً لمصالحهما وحقوقهما المُكْتسبة في مياه النيل، وأدعتْا أن أيٍ من هذه المشاريع هو خرقٌ واضحٌ للاتفاقيات القائمة.
وهكذا بدأت الخلافات والنزاعات حول مياه النيل وتشعّبت وتصاعدت مع مرور السنوات، فهل ستنجح وساطة السودان في حلحلتها؟
هذا ما سوف نحاول الإجابة عليه في المقال القادم.

Go to top